بداية لنتفق:

  • الحديث هنا لا يختص بمجتمعنا، هي حالة انسانية موجودة في أغلب المجتمعات.
  • هناك صناعات (Macro – Industries): مثل الرياضة – الثقافة – الاقتصاد – التقنية، وخلافها.
  • هناك نطاقات داخل الصناعات (Micros – Domains): مثل صناعة الثقافة، هناك الشعر الفصيح، النبطي، الرواية، الأفلام، وخلافها.

لفت نظري قبل أيام في تويتر حديث عابر عن دور للممثل الامريكي جيم كاري، أدلى شخص عادي (معلم تربية رياضية للمرحلة الثانوية) بدلوه في الموضوع ليصله رد آخر يقول: “خلك في رياضاتك”، الحديث القصير كاملا هنا:

والأمثلة المحلية كثيرة أيضا عندما يتحدث شخص في غير مجال تخصصه، غالبا ما يحصل على رد معلب هو: “خلك في شغلك ولا تفتي”، فهل من الواجب علينا ان نلتزم بمجالاتنا فقط ولا نناقش غيرها؟ لنلق نظرة على مجموعة أسئلة رئيسية:

  • هل المشكلة في أن يتحدث الشخص خارج تخصصه/صناعته؟

لا.

  • إذا ماهي المشكلة؟

للمشكلة وجهان:

    • المتحدث: تبرز المشكلة عندما يتحدث الشخص عن موضوع معين سواء كان في مجال تخصصه او خارجه بصيغة الجزم، نعم هي مشكلة حتى عندما تكون متأكدا تماما من صحة ما تقوله، يرتبط العلم دائما بالتواضع وترك مساحة للنقاش، ولذا يقال دائما ان افضل صديق للعلماء هو الشك، من الجيد عندما تطرح ما تثق بصحته ان تكون مستعدا لتوثيق ذلك بما يسنده، وتترك مساحة للنقاش، تتفاجأ أحيانا من بعض النقاشات أنها تعطيك منظورا مختلفا لما تعرف، سواء من ناحية علمية او اجتماعية، كما أن ذلك يقوّي موقفك في تحضير إجابات لكل سؤال متوقع.
    • المتلقي: الناس ليسوا سواسية في آداب الحوار، منهم المتعلم الخلوق والمتعلم الجاهل، والجاهل الخلوق والجاهل الجاهل، ولكلٍّ طريقته وأسلوبه في الحوار والرد، هكذا خُلقنا متفاوتين، فلا تحزن عندما تصلك ردود وقحة، أو جافة، أو لما يفتقد لأبسط أبجديات الحوار، هناك من يناقش للحصول على الفائدة وهناك من يناقش لتخطأتك وآخرون يناقشون لمجرد الجدل، معرفتك بهذا مسبقا يعطيك مناعة طبيعية من التأثر باختلاف مسالك الناس في حواراتهم، والشبكات الاجتماعية خير دليل، لذا يقال دائما Get a Thick Skin وهو تعبير يحث على عدم الاكتراث بالتعليقات الخارجة عن السياق، وهي مهارة تتطور مع الوقت ويتفاوت الناس بحسب حساسيتهم في بناء مثل هذه المهارة.
  • هل التنوع جيد أم سيء؟

جيّد، بل ممتاز، لكن التنوع ليس قرارا، هو اهتمام، التخصص في صناعة معينة هو قرار نتخذه في مرحلة عمرية أثناء الجامعة، قد نتخذ قرار مشابها في مرحلة لاحقة عندما نغير مسارنا الوظيفي بشكل جذري كأن تنتقل من التقنية الى البزنس، كما أن التبحّر في نطاقات معينة داخل تلك الصناعة هو قرار وعمل مخطط، لكن الاهتمام الجانبي بصناعة أخرى هو غالبا أمر فطري محكوم بالاهتمام، نحن لا نقرر أن نحب الشعر عندما يكون تخصصنا في الاقتصاد، أو أن نكتشف الجانب الرياضي فينا عندما نعمل في تكرير البترول، الاهتمامات الجانبية ممارسة وقراءة وحتى الغوص العميق فيها هي ميل فطري نحو ما نحب، غير محكوم بضغوطات الوقت وإنما نهرب إليه من تخصصاتنا، لأننا نجد فيه تنفيسا واستمتاعا أكبر.

  • لماذا يخجل/يخاف الناس من مشاركة اهتماماتهم الجانبية بشكل علني؟

لأن العالم اصبح تخصصيا، ولأن المجتمعات اعتادت على قولبة الاشخاص في تخصصاتهم، فحتى الرأي البسيط حول موضوع عام لم يعد مقبولا كحالة مدرب المرحلة الثانوية أعلاه، ولو عدنا في التاريخ لوجدنا ان المجد كان للعلماء المتنوعين، فجابر بن حيان كان كيميائيا وطبيبا وصيدلانيا وفلكيا، وكان الرازي طبيبا وكيميائيا وعالم رياضيا، يعزو المختصون ذلك إلى حاجة العلماء في ذلك الوقت لاكتشاف اكثر من مجال بسبب صعوبة الحصول على المعلومة، ولكن في وقتنا الحاضر اصبحت المعلومة متاحة فأصبح المجد للمتخصصين، رغم أننا نرى بين الحين والاخر عالما في عدة مجالات.

تقديس التخصص وقولبة الاشخاص في المجالات التي درسوها ويعملون بها أفضت إلى أن ارائهم خارج هذه الصناعة ليست مقبولة، هذه الحالة العامة زادت من حالة الدهشة عندما نكتشف جانبا آخر في شخصية أحد اصدقائنا او زملائنا في العمل، خصوصا عندما يكون متبحرا في ذلك المجال لكنهم بالمقابل لا يشاركون مثل هذه الاهتمامات الا في دوائر ضيقة ومع مهتمين في ذات المجال بسبب الخوف من ردات الفعل الجارحة أحيانا ولأنهم سعيدون في وضع هذا الاهتمام داخل الحياة الخاصة فقط.

  • إذا كان التنوّع جيّد، فهل مشاركته علنيا أمر جيد أيضا؟

تعتمد الاجابة على الشخص ذاته، يمكنك أن تعيش وتموت وأنت اقتصادي لكنك مهتم برياضة الكونغ فو دون ان تناقش هذا الشيء علنا، ويمكنك أن تناقشه بسبب رغبتك أن ترتبط مع اناس يشاركونك ذات الاهتمام من خارج دائرتك الخاصة، أو ربما بسبب ايمانك أن هذه رياضة جميلة وتستحق الانتشار، لذا لا يوجد صحيح أو خاطيء في هذا الجانب والاعتماد الكلي هنا على غرضك من أخذ هذا النقاش الى السطح.

  • كيف نستخدم التنوع لمصلحتنا؟

هذا لا يعني ان تكون “مصلحجيا”، أبدا، هذا يعني انك أفضل من غيرك بسبب تنوعك المعرفي، لذا يشار دائما للأشخاص الأكثر “ذكاءا عاطفيا “Emotional Intelligence” بأنهم قادرون على أخذ منحى الحديث الى جانب مختلف بحسب الشخص الذي أمامهم، فعندما تعرف ان رئيسا تنفيذيا ستقابله مهتم بالمواضيع البيئية، يمكنك دايما ان تحصل على اهتمامه بشكل أكبر عندما تتطرق لهذا الموضوع بشكل ذكي (تجنب الدخول الفج)، هذا النوع من المعرفة والتنوع قد يكون لغرض ما ولكن الشبكات الاجتماعية اعطتنا مساحة كبيرة جدا لمعرفة الجوانب الشخصية من الشخصيات العامة او الاعتبارية بطريقة او بأخرى تمكننا من معرفة اهتماماتهم وتمهد الطريق نحو بدء حوار بناء عندما نلتقيهم.

  • ماهي الفومو FOMO والجومو JOMO؟

الفومو هي اختصار لـ”Fear of missing out” او “الخوف من أن يفوتني شي” وهو عنصر أساسي في هندسة الشبكات الاجتماعية، فتجد الشخص دائما متطلع لمعرفة ماذا حصل في العالم رغم ان عدم معرفته لن يغير شيئا في العالم ولن يؤثر على الشخص نفسه على الاطلاق، ولكن البناء “النفسي” لهذه المنتجات ارتكز على جوانب علمية مثبتة في علم النفس عززت فينا فتح هواتفنا الذكية عند مرور بضع دقائق بسبب او بدون سبب وبشكل لا شعوري لأننا نرزح تحت وطأة الفومو، لكن السؤال هو ما دخل الفومو في التنوع؟ غالبا، الاشخاص ذوي الاهتمامات المتنوعة يصنعون عوالمهم الخاصة بعيدا عن هذا الشعور، ولذا برز مصطلح الجومو وهي اختصار لـ “Joy of missing out” أو “المتعة في أن تفوتني الأحداث” وهي تفسر حالة الاشخاص الذين ينشغلون بذواتهم عن العالم، فهم يستمعون أو يشاهدون موادا تلامس اهتماماتهم غير مكترثين بالعالم اللاهث من حولهم.

 

شخصيا، لدي إيمان عميق أن التنوع وإن كان قَدَرَا أكثر من كونه خيارا إلا أنه مهارة عظيمة، باختلاف الصناعات او النطاقات او الاشخاص الذين نتعامل معهم، هي مفتاح لمعرفة كيف تتعامل مع الاخرين بطرق مختلفة ومتباينة للغاية، لذا تعجبني (مع حفظ الألقاب للجميع) حكمة عبدالله بن عون، ويطربني منيف منقرة، ولا حدود لسعادتي عندما أجد لقاء جديدا لخالد الدخيّل، ويبهرني مسار نايف الروضان، ويصنع يومي أن أجد مصدرا جديدا يتحدث عن تاريخ الدولة السعودية التي وإن كنت لا تعلم تأسست قبل نشأة الولايات المتحدة الامريكية (الدولة السعودية الأولى تأسست في 1744 بينما تأسس أول اتحاد امريكي في 1776)، أرأيت، التنوع ليس سيئا، والحياة ليست كلها تقنية، لننهِ هذه التدوينة الصباحية بهذه القصيدة الجميلة للشاعر العلّم عبدالله بن عون: